ربما هذا السؤال لم يخطر على بالك، لكنه يدور في ذهني على الدوام، منذ أول يوم دخلت فيه الإنترنت نهاية القرن الماضي وحتى اليوم، والإجابة أجدها دوماً منطقية وتزداد تشعباً عند كل مرة أقف فيها عند هذا السؤال.
دعنا نتفق في البداية أن كل مايدور في ذهنك سيبقى حبيس خيالك فقط، إن لم تنطق به أو تدونه فقد تنساه في صباح اليوم التالي حين تزول كل مسبباته، فإن نطقت به للآخر فربما تكون سبباً في قدح زناد عقله، أما حين تتم كتابته فسيتحوّل إلى حقائق ملموسة قابلة للنقاش والنقل والحفظ، سواء لغيرك أو لنفسك.
الكتابة تجعلك تعرض نفسك للآخر، دون حواجز، والكتابة تحميك من زلات اللسان، وتجعلك أفكارك مرتبة أو فوضوية امامك لتمسكها وتحركها وتنسقها كما تريد.
بالكتابة تقرأ نفسك فتعرفها حق المعرفة، وبالتدوين فأنت تحفظ سجل لكل أفكارك وأحلامك وحتى هفواتك وسذاجتك.
حين تكتب سيقرأك الآخرين فيتعلمو منك، والعلم هنا ليس بالضرورة شرح عمل برنامج حاسوب أو طريقة صنع البازين! العلم هنا قد يكون بمعرفة أن هناك بشراً مثلك موجودين على الأرض ويفكرون بطريقتك ويتحدثون بطريقتك ويملكون مُثل وقيم مثلك، وربما حين تتكلم عن نفسك ستزيح عن آخرين عبء التعبير والفوضى التي يشعرونها ولايجدون مخرجاً لها.
أما حين تتفاعل مع الغير بالكتابة فستكتسب خبرات جديدة سواء من المنتقدين او المادحين وحتى الكارهين، فبالكتابة والتفاعل مع الناس ستكتشف حدوداً وإطاراً لصورتك التي تود رسمها بالكلمات، وستتقنها أكثر وستجد لغتك قد تحسنت وإزدادت معرفتك بالناس وبالعقليات الأخرى، السيئة والحسنة.
قبل 20 سنة تقريباً لم يكن من الممكن أن تتفاعل مع الآخرين بالطريقة التي نعيشها اليوم، فالآن العالم أمامك مع الإنترنت، تتفاعل مع الكاتب مباشرة، وهي نهضة كبيرة في تاريخ البشرية للتواصل والتفاعل.
يمكنني تقسيم الناس بين 4 فئات:
- فئة تقرأ ولا تتفاعل.
- فئة تقرأ وتتفاعل.
- فئة لا تقرأ وتتفاعل.
- فئة لا تقرأ ولا تتفاعل.
الفئة الأولى هي فئة سلبية، فهي تقرأ ولا تتفاعل مع الكاتب لا بالتعليق ولا بالإمتنان ولا حتى بالإعتراض، تقرأ بصمت وتمضي، وهذه الفئة جزء من مشكلة عدم وجود الدافع لدى الكثيرين من الكتاب والمدونين (القدامى والجدد) للعطاء وتقديم المزيد، فتجدهم بعد فترة من الكتابة وعدم وجود التفاعل، يملون ويرحلون، فلا يمكنهم معرفة مكمن الخلل في مايقدمونه وبالتالي لن تتحسن كتاباتهم بشكل سليم.
الفئة التانية هي فئة أعتبرها شخصياً فئة إيجابية، نعم إيجابية حتى وإن كانت آراؤها سلبية ومزعجة للكاتب، فهي تبدي الرأي والنصيحة حسب مفهومها، هي فئة فتحت الباب لك كما فتحته أنت لها، وهنا هو مدخل لكلا الطرفين للحوار والحديث للخروج بنتيجة ربما مرضية للطرفين أو أحدهما فقط، وعلى كل حال فهذه الفئة أعتبرها من الفئات التي يجب أن تستمر في التواجد على الإنترنت وخارج الإنترنت وأن لاترضخ لتكميم الأفواه الذي قد يمارسه الكاتب نفسه أحياناً بإستخدام ميزة الحظر!
الفئة الثالثة هي الفئة الغريبة العجيبة التي ظهرت مع ظهور الإنترنت، فأصحابها لا يقرأون المكتوب لكنهم يشكلون صورة عامة عن النص ويبدأون في التعليق والتفاعل مع الكاتب سواء بالسلب أو الإيجاب، وقد يستنزف الكاتب كل طاقاته في كتابة أسطر مقالته في تعليقات متتالية ومتكررة محاولة منه لتلقين أصحاب هذه الفئة النص المكتوب بالأعلى، فيجد نفسه أثناء الحوار معهم كمن يفسر الماء بالماء! والحل الوحيد لهذه الفئة هو تلخيص مقالتك منذ البداية في سطر أو إثنين إستباقاً لمن لايجد الوقت لقراءة نصك الكامل.
الفئة الرابعة هي فئة نادرة التواجد على الإنترنت، تجدها تسمع عن الإنترنت والمواقع من أصدقاء آخرين وتعيش حياتها خارج الإنترنت، ربما بدافع الكراهية لهذا العالم أو الخوف أو حتى بسبب عدم وجود الإمكانية المادية أو الزمنية للتواجد داخله، وهذه الفئة أتمنى أن تجد من يأخذ بيدها ويدخلها عالم الإنترنت ويريها الفوائد التي قد يجنيها أصحابها منه.
الكتابة على مر الزمان كانت وستكون حتى من بعد مماتنا، أداة يمكن توظيفها للفساد والترويع والتضليل ونشر البلبلة بين الناس، كما انه يمكن توظيفها لفعل العكس تماماً، والأمر متروك لأدب وتربية وأخلاق الإنسان ذاته.
الكتابة شيء يجب أن تمارسه لتتقنه، وعليك أن تتفاعل مع الآخرين كقاريء أولاً لتتقن الكتابة ثانياً، لا العكس!
الخلاصة
الكتابة هي كالكلام المحكي، لايمكنك تتفيهها ووضعها في الهامش، لايمكن أن تسيسها في الخفاء، مهما حدث فإن القاريء سيكون هو الحكم على ماتكتب، والجمهور الذي تتوجه له بالكتابة يمكنك إختياره، فإن كتبت بالعامية الدارجة لشعب معين فأنت قد حددت فئتك مسبقاً، فإن أردت تكبير حجمها قليلاً فغير إلى العربية الفصحى، وإن أردت مخاطبة العالم فاللغة المحكية اليوم هي اللغة الإنجليزية.
كتاباتك والتفاعل الذي يحدث معها من الآخر ستحددها أنت، إن أردت زراعة شجرة، فلن تختار أرضاً أسمنتية، صحيح؟ ربما ستحمل معولاً وتضربها بضع ضربات لكنك لاتعرف قرار وسمك طبقة الإسمنت هذه، فلماذا لاتتجه إلى أرض أكثر خصوبة تستقبل ماتزرعه فيها مباشرة؟ أو ربما أنت من محبي التحديات والمجهود؟
الأمر كله منوط بك، لايمكنك التذمر من عدم وجود تفاعل أو عدم نفع ماتكتبه الآن، فربما تلك البذرة التي ترميها اليوم تنبث حتى بعد مماتك!
الفائدة من الكتابة لايمكن أن ينتقدها شخص ما اليوم دون أن يوصف بالإعاقة العقلية، فكيف للإنسان أن لايتنفس؟ ليموت طوعاً؟
لنا عودة يا علي بعد المطالعه فقط حبيت نسجل رؤيتي للموضوع ويهمني معرفة رأيك حول مثل هذا العنوان
تحياتي
بعد الاطلاع عدنا من جديد، اتفق معك في رايك حول تفاعل الناس مع ما ينشر، من فترة قد قرات موضوع عن التفاعل لكن بشكل اخر هو لماذا لا تبعت رسالة لكل صاحب برنامج تستخدمه او موقع او كتاب تقراه او فيديو واعجبك تشكره فيه او تبدي رايك فيك، مجرد فكرة ومقترح
جميلة هي الحروف التي قرأتها للتو ، بثت فيي طاقة عظيمة للعودة للكتابة من جديد ، المشكلة أنني بدأت أشعر بانقراض عالم التدوين ، و اتجاه الناس لمواقع أخرى ” أقل دعماً للكتابة ” فما رأيك في ذلك ؟ و ما الحل باعتقادك ؟
شكراً على التدوينة بحق =)