منذ زمن طويل، وُجدت مهنة اسمها “بيع الكلام”، حيث يُدفع المال لمن يمدح هذا، ويشوه صورة ذاك. وهي مهنة تحتاج لمهارة في التملق، واختيار الكلمات، والقدرة على الكذب بطريقة تبدو “مُقنعة”. واليوم تغيّر شكل هذه المهنة، لكن جوهرها بقي نفسه، فقط انتقلت إلى مواقع التواصل.
أصبحت ترى أشخاصًا لا عمل لهم إلا كتابة عشرات المنشورات كل يوم، عن كل موضوع تريند، يركضون وراء كل جديد، ينتظرون “الوجبة القادمة” ليمضغوها ويقدموها لنا بأسلوب يشبه المسلسلات:
- “انتظروا الوثائق في المنشور القادم”،
- “سأكشف الحقائق لاحقًا”،
- “الفيديو الخطير سينزل بعد قليل”،
- وغيرها من العبارات التي تُخفي وراءها فراغًا كبيرًا.
للأسف، نحن كليبيين نُقبل على هذا النوع من المحتوى، ونتداوله بيننا بشكل غريب. قد يكون السبب هو أننا نشعر براحة مؤقتة عندما نرى أشخاصًا ناجحين يُفضَحون أمامنا، فنشعر بأنهم ليسوا أفضل منا، وأن نجاحهم كان كذبًا. وهذا يخفف عنا شعور الفشل أو التقصير.
والأخطر أن هذه “المهنة” أصبحت تجارة رائجة، لأن الناس تتابع وتعلّق، سواء بالشتائم أو بالمجاملات (كلاهما بنفس الوزن: سبّ وتطبيل). ولو لم يكن هناك جمهور، لما استمرت هذه الصناعة أصلاً.
لكن لماذا أصبح لهؤلاء تأثير؟
السبب الرئيسي أن المنصات الجادة والأقلام المحترمة تراجعت، إما بسبب فقدان التمويل، أو فقدان المصداقية، أو حتى الخوف من الهجوم. هذا التراجع خلق فراغًا كبيرًا في المحتوى المحترم، فتح المجال لتجار الضجيج كي يملؤوه بسلعهم الرخيصة.
والمؤلم أكثر، أن كثيرًا من الناس الذين يتعرضون للتشهير أو الظلم الإعلامي، يضعون اللوم على “فلان” أو “علان” لأنه لم يكشف الحقيقة ويكتب عنهم، أو لم يُنصفهم، أو لم يدافع عنهم في الوقت المناسب.
لكنهم ينسَون، أو يتناسَون، أن سُكوتهم السابق، وسلبيتهم المستمرة، وتركيزهم على التافهين، هو ما أوصل الأمور إلى هنا.
فهم لم يدعموا الأقلام النظيفة حين كانت تصرخ وحدها، ولم يشاركوا المحتوى المحترم حين كان يبحث عن مجرد “إعجاب” ليظهر، وفضلوا بدلًا من ذلك ترويج التفاهة والضجيج.
والنتيجة؟ أن من شُهر بهم اليوم، كانوا جزءًا من صناعة شهرة أولئك الذين يهاجمونهم الآن!
لقد كان لديهم الوقت، والموارد، والمنصات… لكنهم لم يستخدموها في خدمة الحقيقة، بل تركوها فارغة، فامتلأت بما لا يُرضيهم، وما يحدث اليوم ليس مؤامرة عليهم، بل نتيجة حتمية لطريقة تعاطيهم مع الواقع الرقمي والإعلامي.
شخصيًا، كثيرًا ما أواجه هذا: أنشر خبراً من صحيفة معروفة، فيأتي من يهاجمني ويقول: “ألا تعلم من يملك هذه الجريدة؟ إنها تابعة لفلان!”، ثم يتهمني أنني بوق إعلامي، فقط لأنني شاركت خبراً!
وإذا حذفت تعليقه السيء، يقول عني جبان، ويعتبر أن هذا دليل على أنني أخفي شيئًا، وهكذا، بدل أن ننشر الوعي، نقضي وقتنا في الدفاع عن أنفسنا أو في حذف السموم.
ما الحل؟
- لا تتابع من لا يضيف لك شيئًا، ولا تنشر عنهم.
- ادعم من يقدم محتوى محترمًا وجادًا، حتى لو لم يكن ممتعًا بنفس قدر الضجيج.
- لا تنشر قبل أن تتأكد من مصدر المعلومة.
- استثمر وقتك في شيء نافع، يطوّرك ويفيد غيرك.
إذا لم نتوقف نحن عن دعم هذا النوع من المحتوى، فلن يتوقف وحده. نحن السبب في انتشاره. ومثلما نحن من أعطيناهم الميكروفون، نحن أيضًا من يستطيع إسكاته.
قال الله تعالى: كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (المدثر:38)
فلنتحمّل مسؤولية ما نتابعه، وما نعيد نشره، لأننا بذلك نصنع بيئتنا الرقمية، إما أن تكون نقية… أو ممتلئة بالضجيج والكذب.
وأنا أعلم تمامًا أن ما أكتبه هنا لا يُناسب المزاج العام، ولا يشبع إدمان “التريند”، فالوضع الذي وصل إليه كثير من الناس اليوم، يُشبه إلى حدٍّ كبير حال مدمن الأفيون أو الهيروين؛ لا يبحث عن العلاج، بل عن الجرعة التالية.
ولا أتوقع – بكل صراحة – أن حتى 50٪ من متابعي هذه الصفحة سيصلون بالقراءة إلى هذه الفقرة، لأن الكلام هنا لا يفضح فلانًا، ولا يكشف مؤامرة عن علان، ولا يحمل حصريات، ولا فيديوهات “تفجير”… بل يتحدث عن أنفسنا، عن مسؤوليتنا، عن أزمتنا الحقيقية.
وحديث النفس دائمًا ما يكون أثقل من حديث الفضيحة.