في مساءٍ خانق داخل سوق الجملة بالكريمية، وقف سالم، موظف بسيط جاء يبحث عن بضاعة ليفتح بها محلّه الصغير. كان الطريق مزدحمًا بسيارات الدفع الرباعي، ورائحة فسادٍ لا تُرى، لكن تُحَسّ.
مرّ بجانبه تاجر شهير يُلقَّب بـ الحاج منصور، رجلٌ سمين، يحمل مسبحة طويلة ويبتسم ابتسامة يعرف سالم أن خلفها حسابات مظلمة.
المشهد الأول: لعبة الدولار
دخل سالم للمخزن، فوجد الحاج منصور يتفاخر أمام مجموعة من التجار:
“يا جماعة… الدولار قصة هاليومين، نشري في الكاش من المشير، سبعة وشوية، وما نقدرش نبيع إلا بالكاش… شني؟ حوالااات؟ مستحيل… حنخسر!”
سالم يعرف الحقيقة… فكل تجار المنطقة يعرفون أن الحاج منصور يحصل على الدولار بـ اعتماد مصرف ليبيا المركزي بسعر 5.44 دينار، ثم يُسّعر بضاعته وكأنه اشتراه من السوق الموازي 7.85 دينار، ويصرخ في وجه الزبون مدّعيًا أنه يتكبّد خسائر.
بل الأسوأ… إذا سمع كلمة دفع إلكتروني ينقلب وجهه:
“لو بندير حوالة حنشري الدولار بتسعة وربع! وهكي الأسعار حتولّع! مهبول أنت؟ الكاش أرخصلك!”

ومع كل هذا، يعرف سالم أنه كذب مفضوح.
المشهد الثاني: حلقة الفساد المغلقة
بعد أن يبيع الحاج منصور بضاعته، لا يذهب لشراء سلع جديدة فقط، بل يذهب إلى محل آخر في السوق يقدّم “خدمة سحب البطاقات”.
هناك، كل 1000 دينار إلكتروني تتحول إلى 800 دينار كاش فقط.
ولكن بالنسبة لمنصور؟
العكس تمامًا.
هو يبيع الكاش الذي جمعه من الزبائن ويأخذ إلكترونيًا 1250، ويضع الفرق في جيبه.
هكذا تدور العجلة:
- يأخذ الدولار من الدولة بسعر مدعوم.
- يبيع السلع بسعر السوق الموازي.
- يجمع الكاش من المواطنين.
- يبيعه لمحلات السحب مقابل عمولة كبيرة.
- يعود ليستفيد من سعر الاعتماد مرة أخرى.

فسادٌ نظيفٌ… قد يبدو أنه لا يترك أثرًا، لكن أثره الوحيد هو جيوب الناس الفارغة.
المشهد الثالث: العامل الأجنبي، الذريعة الساذجة
خارج المخزن، كان أحد المواطنين يهمس لصديقه:
“يا راجل… العامل الأفريقي يبّي كاش، شنديروا؟”
سالم التفت إليه لأول مرة بغضب:
“لما تسلّم أجنبي كاش، فأنت تدعمه يبعته للخارج، وتدعم معاه التهريب والهجرة غير الشرعية. أنت جزء من خراب البلاد، مش ضحية فقط.”
“الدفع الإلكتروني يخلي كل شي واضح: الرواتب… الضرائب… التحويلات… حتى حركة السوق، لكن الكاش؟ الكاش جنة الفاسدين.”

سكت الرجل… فلأول مرة يشعر أن العبارة أصابت قلبه.
المشهد الرابع: انهيار الوعي
من سنة 2014، حين وصل الدولار لـ 10 دينار، ارتفعت الأسعار، لكن بعد أن انخفض الدولار… الأسعار بقيت كما هي.
لأن السوق لا يتحرك بالدولار… بل بجشع الكاش.
تجار يكدّسون الأموال، محلات تبتلع البطاقات، مواطنون يبرّرون، والدولة تتفرّج.

وكأن الكاش أصبح دولة داخل الدولة… دولة لها قانونها، وحراسها، وملوكها.
الخاتمة: نداء سالم
خرج سالم من السوق وقد ثقل صدره، ونظر إلى الصف الطويل أمام محلات “السحب” وتذكّر طوابير البشر أمام المصارف وماكينات الصراف الآلي تضربهم كل العوامل الجوية طمعاً في حفنة أخرى من الكاش وقال:
“حني من صنع هالوحش… والوحش عايش عالكاش.
لو نبّو ننتفضوا عالفساد، فالبداية مش في الحكومة… بل في جيوبنا.
الدفع الإلكتروني مش رفاهية… بل آخر قلعة نلبدو فيها قبل لا يبتلعنا الطوفان.”
ومشى سالم بين الناس… يحمل أكياسه القليلة، مع حقيقة كبيرة جدًا… أكبر من السوق، ومن التجار، ومن الفساد كله:
الكاش هو الظلام، والدفع الإلكتروني هو الضوء الوحيد الباقي.

